أخذت مقعدي مع صديق في المقهى لشرب الشاي، و إذا بالتلفاز يصدح بأغنية للفنان الراحل أبو بكر سالم بلفقيه، و وافق أن كان بجوارنا رجل متقدم بالسن، لكنه كان يمتلئ صحة و عافية، و بديهة حاضرة، و بدا أن لديه إلى جانب ذلك قدرا جيدا من الثقافة و الإطلاع .. فما هو إلا أن سمع أبو بكر في أغنية له : نار بعدك يا حبيبي نار و الله نار ..!! حتى طرب و انتشى، وراح يدندن معها ، و يحرك أصبعيه الإبهام و الوسطى محدثا منهما تصفيقا.
استلفتت حيويتُه و طربه انتباهنا، ما دفعني لأن أتوجه إليه و أسأله ممازحا : هل أنت بعيدا عن الحبيب ؟ و هل مايزال يتّقد فؤادك نارا ؟
فاستدار الرجل الشيخ بكرسيه ليواجهنا، فظنناه يريد أن يشرح لنا عن نفسه و عن تجربته في الحب ؛ لكنه أخذنا
بعيدا .. و أخذ يفلسف النار و النيران، إذ راح يقول : شوف يا ابني : هذه النيران التي تصيب الانسان أنواع عدة، وليست نوعا واحدا !
أعجبني و صديقي منه هذه الروح الحيوية، و النفَس الفلسفي الذي يتمتع بهما ؛ و لأنه كذلك طلبنا منه أن يشرح لنا أنواع تلك النيران التي تصيب الإنسان، حتى لقد ظننته أنه سيشرح لنا مذاهب الحب، إذ ذكرني بقول الشريف الرضي :
مذاهب شتى للمحبين في الهوى
ولي مذهب فيهم أقوم به وحدي
و ما شرب العشاق إلا بقيتي
و ما وردوا في الحب إلا على وِردي
ظننته كذلك، لكنه - عندما سألناه عن أنواع النيران التي يقصد- كان شخصية أخرى ، إذ قال : هناك نيران تصيب المحبين، فيتعاطى معها الشعراء ، فهذا عنترة العبسي يشكو نار الحب :
أحرقَتْني نارُ الجوى و البعاد
بعد فقد الأوطان و الأولاد
و تذكرت عبلة يوم جاءت
لوداعي و الهمّ و الوجد بادي
و قبل أن تكتمل دهشتي من دقة استشهاده لما يستدل به لنار الحب ؛ بادر بالقول : و العجيب أن عنترة عاش الحرب بلواعج الحب، فما يكاد ينسى عبلة، حتى إنه ليرى لمعان السيوف في المعركة لمعان ثغر عبلة حين تبتسم :
و لقد ذكرتك و الرماح نواهل
مني و بيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها
لمعت كبارق ثغرك المتبسّم
ثم يمضي الرجل المسن قائلا : و يترجم الفنانون؛ شعر الشعراء إلى ألحان عِذاب - كما يقول صاحبنا أبو بكر - و يشير إلى التلفاز و إذا بالأغنية كانت قد انتهت، فلم يكترث، بل مضى يلقي علينا درسه، فقال : و هناك نيران الحروب !
قاطعناه، و قلنا له و ما العلاقة بين نيران الحب و نيران الحرب، حتى تجمعها في مضمار واحد ؟
قال : لقد قلت لكم أن النيران أنواع، و الحرب كذلك ليست نارا واحدة ، و إنما هي أنواع أيضا . فأردفنا بسؤال : و ما أنواعها ؟
قال : هناك نيران العدو الذي يستبيح قتل الأبرياء و لا يبالي أقتل طفلا، أم امرأة، أم شيخا..!! و هذ بالطبع عدو ظاهر العداء؛ لا يرقب في مؤمن و لا مؤمنة، إلا و لا ذمة.
فقلنا : هذا أمر معروف ! فمضى مسترسلا : و هناك النيران الصديقة، التي تصيب الأصدقاء أو الحلفاء، عن طريق الخطأ، و هي حوادث نادرة جدا جدا ؛ و قد تقع بسب خطأ فني، أو غباء يطرأ عند التنفيذ، و هو نادر كذلك.. فرُحنا - من جانبنا - نتعالم أيضا، و أننا نعرف أن تحدث مثل هذه الأخطاء القليلة و النادرة التي لا تتكرر، فلم يأبه بتظاهرنا أمامه بالمعرفة، بل مضى يشرح فلسفته، قائلا : و هناك النيران الغادرة !؟
و هنا لم نشأ أن نظل أمامه مجرد تلاميذ يلقي علينا دروسه، فسألناه ؛ كالمسفّهين لفلسفته : و ما النيران الغادرة !؟ فقال : هي تلك النيران التي تأتيك من وراء ظهرك، كطعنة من الخلف، و أنت في أمان و اطمئنان، فإذا مصيبتها أكبر، و كارثتها أبلغ ؛ لأنك ما كنت تظن أن تؤتى من مأمنك، أو تكتشف أنك وضعت ثقتك في غير محلها..!!
ثم التفت نحونا فوجدَنا كالمستغربين ؛ فقال كمن يلقي درسه الأخير، أو خلاصة حكمته : إحذر عدوك ألف مرة، و احذر أن تعطي ثقتك لمن لا يستحق مليون مرة !
قلنا له : لقد حوّرت المثل ، و ضاعفت العدد.. فرد -ساخرا - و هو يتهيأ للخروج : واقع الحال، و فارق أسعار الصرف.. !!