تعدُّ الهجرة النبوية الشريفة أبرز حدث في السيرة النبوية خصوصا وفي التاريخ الإسلامي على وجه أعم. ومع أن أحداثا عظيمة أخرى شهدتها الساحة الإسلامية تباعا كيوم بدر ويوم الفتح والقادسية واليرموك وهذه الأحداث مثلت إعلانا واضحا وقويا عن حقيقة الوجود الإسلامي وقدرته على التنامي والتعاظم والانتشار؛ إلا أن الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأجمل السلام كانت بوابة الانطلاقة الإسلامية، وفاتحة التمكين ونقطة التحول الكبرى التي انتقلت بالوجود الإسلامي من إطار جماعة مستضعفة أثخنت فيها مخالب الشرك قتلا وتهجيرا وتعذيبا إلى نطاق دولة قوية راشدة تخاطب الأكاسرة والقياصرة وعلى أسوارها تحطمت كل محاولات النيل منها.
إنها حد بين زمنين، وفاصل بين عهدين وثورة عظيمة حطّمت بمسارها التغييري حالة الاستضعاف والهوان التي سيطرت على أتباع الدين الجديد في مكة وخاصة البسطاء منهم، وانتقلت بهم إلى حالة من العزة والاعتداد بالذات الجمعية والتفكير المؤسسي في إطار دولة الإسلام التي أسسها النبي الأعظم صلوات الله وسلامه عليه وظل الوحي يتعهدها ترشيدا وتوجيها حتى استوت على سوقها، وظل المسجد بما هو عليه من قدسية وجلال مقر حكمها ومعقد رسالتها، ومنطلق الدعاة والمجاهدين الذين طرقوا أبواب المعمورة أمواجا من الطهر وعواصف غيث ماكان للبشرية المقهورة إلا أن تتجاوب معها لأنها أعادت إليها كرامتها المسلوبة وعزتها المنهوبة.
وإذا كانت الهجرة مكسبا كبيرا للإسلام استفادت منها الأجيال الإسلامية نصرا وتمكينا وإثبات وجود فإنها لا تزال قادرة على أن تعطيَ حتى اليوم، فلا يزال أثرها قائم، ولا تزال بحقيقتها الإسلامية منار إشعاع وشعلة هداية، كما أن رسالتها لا تزال مجلجلة واضحة المعالم، يوحي منطقها الثابت لكل ذي عقل بأن التغيير نحو الأفضل هو هجرة كل فرد من جماعة المسلمين وأن التضحية التي يتطلبها هذا التغيير على مستوى الفرد والجماعة هي تضحية جليلة تشبه في روعتها وجلالها تضحية أولئك الذين تركوا أموالهم وديارهم وأهليهم وانطلقوا مهاجرين في قافلة النور إلى الله.
وتوحي حقيقتها الثابتة بأن قوة الحقيقة الإسلامية بوحدة حملتها شعورا وروحا ومنطلقا وغاية، وبأن التآخي بين أفراد الصف الإسلامي كما حدث بين المهاجرين والأنصار هو مفتاح القوة وهو الرحم الذي يتخلق فيه المارد الإسلامي ليملأ الأرض بعدها نورا وعدلا.
وتوحي طبيعتها المتجددة بصدق وعد الله لعباده المؤمنين بالتمكين والاستخلاف طالما امتلكوا شروط هذا التمكين والتزموا بضوابط ذلك الاستخلاف، فلكل شيء ثمن، وثمن الغايات النبيلة والمقاصد العليا لا يقدر عليه إلا المؤمنون الصادقون.