تستجيب المملكة العربية السعودية وجمهورية مصر العربية، للتطورات والتحديات المتسارعة في البحر الأحمر، كان آخرها بيان 12 يناير/ كانون الثاني الذي جرى تخصيصه لإدانة تهديدات "الحوثيين" ومحاولاته المساس بأمن وسلامة الملاحة في مضيق باب المندب والبحر الأحمر.
البيان أكد على "أهمية دعم وتعزيز التعاون المشترك لضمان حرية الملاحة بتلك الممرات البحرية المحورية، وضرورة التصدي لأي محاولات مماثلة باعتبارها تمثل تهديداً للأمن والاستقرار الإقليميين والدوليين".
تؤكد التطورات المتسارعة خلال العامين الماضيين على عودة ظهور الجغرافيا السياسية للبحر الأحمر في التطورات المرتبطة بتنافس سياسات القوى العظمى؛ والتهديد الإيراني الذي يعتبر أكبر وجود إيراني في المنطقة طوال العقد الماضي، والمهدد الرئيس الذي يزيد من أهمية الجغرافيا السياسية للبحر الأحمر.
الدول المشاطئة للبحر الأحمر سبع دول ساحلية: مصر والسودان وإريتريا وجيبوتي تشكل الجناح الغربي-إضافة إلى الصومال على مدخل مضيق باب المندب- بينما المملكة العربية السعودية واليمن يشكلان الخط الساحلي الشرقي. يتواجد ميناء إيلات الذي يديره الاحتلال الإسرائيلي في الزاوية الشرقية من الممر الاستراتيجي الهام. من بين هذه الدول تعتبر مصر والسعودية دولاً إقليمية ذات ثقل كبير في حد ذاتها، في حين أن الدول الأخرى إما ضعيفة وذات سياسة متغيّرة أو تعاني أوضاعاً داخلية متوترة، وإما فقيرة تعتمد على موارد محدودة، وتأجر سواحلها كقواعد عسكرية.
ومع هذا التهديد والتحشيد يدفع تساؤل لماذا جغرافيا البحر الأحمر مهمة؟
بحلول عام 2050، من المتوقع أن يصل الناتج المحلي الإجمالي لمنطقة البحر الأحمر إلى أكثر من ثلاثة أضعاف، من 1.8 تريليون دولار إلى 6.1 تريليون دولار، ومن المتوقع أن ينمو حجم التجارة فيها بأكثر من خمسة أضعاف، من 881 مليار دولار إلى 4.7 تريليون دولار. هذا التراكم للثروة، مدفوعًا بقطاعي النفط والطاقة، هو مجرد جانب واحد مما تقدمه منطقة البحر الأحمر.
في حين أن ما يقرب من 10 ٪ من جميع التجارة العالمية تمر عبر مياهها، فهي منطقة حرجة للصراع المسلح والتشابك العسكري ومنافسة القوى العظمى.
لذلك كانت السعودية ومصر أمام طريق إجباري لتوثيق التنسيق بشأن حماية الملاحة في البحر الأحمر، والتدخل لوقف المهددات الذي تواجهه ونشير في التقرير إلى مهددين رئيسيين.
أولاً: التهديد الإيراني/ الحوثي:
خلال سنوات زودت إيران الحوثيين بكل ما يحتاجونه لتهديد الملاحة الدولية، وقام فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإسلامي الإيراني بتزويد الحوثيين بالتدريب وترسانة متنامية من الأسلحة المتطورة والتكنولوجيا والألغام البحرية والطائرات بدون طيار المحملة بالمتفجرات والصواريخ الباليستية وصواريخ كروز البحرية والمركبات البحرية بدون ربان (UMVs) وغيرها من الأسلحة والأنظمة التي استهدف الحوثيون بموجبها على سبيل المثال: ناقلات النفط، السفن التجارية، اليخوت السياحية، وسفن الشحن. وقاموا بتلغيم ممرات الشحن في جنوب البحر الأحمر. ما يعني تهديد كل ما يعبر عبر البحر الأحمر. وهو أمرٌ مهدد لقناة السويس كما يهدد الموانئ التجارية السعودية ومشاريعها الاقتصادية التي تشهد المملكة ازدهاراً.
تتواجد إيران أيضاً في البحر الأحمر ضمن القوات الدولية في المحيط الهندي، أو "السفينة سافيز" وتزامن وجودها في البحر الأحمر مع بدء الحوثيون هجماتهم البحرية(2016) وتُتهم بكونها تزود الجماعة المسلحة بالإحداثيات والمعلومات الاستخباراتية. وتم سحبها من المنطقة في (2021) بعد هجوم مجهول اُتهم فيه "الاحتلال الإسرائيلي"، واستبدلتها على الفور بالسفينة "بهشاد" كما تشير صور الأقمار الصناعية.
ولا تستخدم إيران البحر الأحمر من أجل مهاجمة السعودية فحسب، بل للضغط على المجتمع الدولي، في قضايا متعلقة بسياستها الخارجية، فعادة ما استخدمت طهران استهداف الملاحة في البحر الأحمر عندما يتعقد وضع مفاوضات الاتفاق النووي الإيراني: عندما انسحب دونالد ترامب من الاتفاق النووي عام2018 شن الحوثي سلسلة هجمات في البحر الأحمر، وتسببت القوارب دون ربان المسيرة المحملة بالقنابل والألغام في إتلاف السفن، كما شن الحوثيون هجمات عنيفة على أرامكو شركة صناعة النفط السعودية بشدة بين 2018-2022، قبل أسابيع من بدء الهدنة.
وفي سبتمبر/أيلول 2022 مع تعثر مفاوضات الاتفاق النووي وجهت إيران رسائلها من البحر الأحمر: حيث قامت ميليشيا الحوثي بعرض عسكري كبير في مديرية الدريهمي قرب مضيق باب المندب معلنة عن صواريخ بحرية حديثة إيرانية، في الوقت الذي احتجزت فيه البحرية الإيرانية قاربين مسيرين أمريكيين قرب المضيق، وأفرجت عنهما في وقت لاحق.
ومع إعلان الولايات المتحدة وقف التفاوض في الملف النووي مطلع العام الحالي والغضب الأوروبي من سلوك النظام تجاه المتظاهرين في الداخل، ومن الملفات الخارجية، يبدو أننا سنشهد جولة من الهجمات البحرية الإيرانية/الحوثية على البحر خاصة مع استعداد الحوثيين هذا الشهر (يناير/كانون الثاني) للمؤتمر الأمن البحري.
والوجود أو النفوذ الإيراني في البحر الأحمر ليس حالة طارئة فرضها دعم النظام للحوثيين فقط بل استراتيجية يجري تنفيذها، واعتبر قاسم سليماني اليمن ذات أهمية استراتيجية، لأسباب ليس أقلها دعم آية الله خامنئي لخطة 20 عاما البحرية. فسيطرة الحوثيين عام 2014 على الحديدة على ساحل البحر الأحمر كان ضرورياً لمشروع الأمن البحري طويل الأمد للحرس الثوري الإيراني الذي يعطي إيران فرصة لتعطيل بعض أكثر نقاط الاختناق في التجارة والنفط، مثل باب المندب والخليج العربي.
ثانياً: العسكرة الدولية للبحر الأحمر والحاجة لنظام إقليمي
عندما تم النظر في الطابع الاستراتيجي للبحر الأحمر، فقد كان في أغلب الأحيان متغيرًا في معادلات القوى العظمى في الحرب الباردة. ومع الحالة الدولية الراهنة (بعد الحرب الأوكرانية)، والاستراتيجية الروسية للأمن القومي (يوليو/تموز2022) التي أفردت للبحر الأحمر أهمية مضاعفة للسابق، وسعيها لبناء قاعدة عسكرية في السودان؛ والتحشيد العسكري للقواعد العسكرية خلال العقد الماضي قرب مضيق باب المندب، فإن من مصلحة الدول المطلة على البحر الأحمر أخذ زمام المبادرة من أجل نظام إقليمي يواجه التهديدات، ويضع نظاماً متفاهماً يمنع استخدام البحر الأحمر في إطار الحرب الباردة.
وكانت السعودية تدعو باستمرار إلى تشكيل كيان إقليمي للدول المشاطئة للبحر الأحمر، باعتباره مسألةً حيوية في التفاعلات المفصلية الأخيرة وأن أمن البحر الأحمر لا يأتي إلا من خلال دول الإقليم، وجرى توقيع اتفاق من أجل كيان جديد مطلع 2020 عقب اجتماع ديسمبر/كانون الأول2019 في الرياض حيث أكدت المملكة على الحاجة لتشكيل كيان إقليمي لدول البحر الأحمر، بهدف تعزيز التعاون السياسي والأمني والاقتصادي بين الدول المشاطئة له.
وهذا الكيان يضم ثمان دول عربية وإفريقية هي السعودية ومصر والأردن والسودان واليمن وإريتريا والصومال وجيبوتي. من الملاحظ أن كافة الاجتماعات (بين القاهرة والرياض) التي عُقدت بين دول البحر الأحمر، لم تشمل كافة الدول المطلة عليه، وهناك إشكاليات نظرية عديدة يمكن مناقشتها، مثل مدى مساهمة كلّ دولة في ميزانيةِ وعمليةِ صنع وتنفيذ القرار في هذه المنظمة المقترحِ تشكيلُها . دفع ذلك السعودية ومصر (اللتان تملكان أكبر السواحل على البحر الأحمر) وبصفتها ذات الثقل الإقليمي والدولي -كما أسلفنا- إلى بلورة الرؤية والتحرك لحماية مياه البحر الأحمر.
اتفاق سعودي مصري
تتفق السعودية ومصر بشأن معظم التهديدات في البحر الأحمر: التهديدات الإيرانية والحوثيين من السواحل اليمنية، ومخاطر توسع الاحتكاكات التي تحصل أحياناً بين إيران وقوى دولية في خليج عمان وصولا الى البحر الأحمر ويكشف الهجوم على السفينة "سافيز" هذا النوع من الحروب المهددة للشحن. ويخشى أن تفهم روسيا تعزيز الولايات المتحدة لأمن المنطقة في مواجهة التهديدات الإيرانية وتأكيد تحالفها في المنطقة خلال العام الماضي أن البحر الأحمر أصبح موطن لحرب باردة جديدة كما كان بين خمسينات وتسعينات القرن الماضي.
تأثيره على الحوثيين
يساهم ترأس مصر لفرقة العمل المشتركة 153 في ديسمبر/كانون الأول الماضي، تأكيد على أن دول المنطقة قادرة على تولي أمن البحر الأحمر ومواجهة التهديدات الإيرانية. الفرقة التي تأسست في ابريل/نيسان الماضي ستقوم بتسيير دوريات عسكرية مأهولة وغير مأهولة بما في ذلك قوارب وطائرات مسيّرة لتغطية مساحة أكبر في البحر الأحمر، سيؤدي ذلك إلى تجفيف تهريب الأسلحة الإيرانية لجماعة الحوثي المسلحة، وتهريب الأسلحة إلى دول القرن الأفريقي، كما أنه سيقوم بالفعل بفحص الجزر غير المأهولة التي دائماً ما استخدمها فيلق القدس الإيراني كمخازن أسلحة ونقلها على قوارب صيد إلى الشواطئ اليمنية في مناطق الحوثيين. لأجل ذلك أبدى الحوثيون غضبهم من ترؤس مصر للقوة الدولية الجديدة.
تسعى مصر لتعزيز قدراتها البحرية بشكل كبير في السنوات الأخيرة، مما جعل أسطولها البحري هو الأكبر في الشرق الأوسط وأفريقيا من حيث عدد السفن. وقد استلمت ناقلات جنود فرنسية الصنع من طراز ميسترال وغواصات ألمانية، بالإضافة إلى فرقاطات أوروبية وأمريكية الصنع. كما تقوم بتصنيع السفن الصغيرة محليًا حافظت أسطولها البحري في السنوات الأخيرة على جدول مزدحم للمناورات الحربية المشتركة مع نظرائها من الولايات المتحدة وأوروبا ومنطقة الخليج.
وفيما تشهد منطقة البحر الأحمر تغيّراً في الجغرافيا السياسية فإن تهديد الحوثيين ومن خلفهم إيران يجعل الأمر أكثر حدة وانعكاسا سلبيا على الملاحة الدولية وأمن المنطقة.