أمسِ مات جارنا مبطونا. إثر تناوله قاتا مسموما..
وقبله مات عامل بناء.. وبقات مسموم أيضا..
وقبلهما مات الكثير والكثير بذات السبب وبذات الكيفية أو (الكيف)!!
إنها مكنة للموت حاصدة. تقطف أرواح المئات بل والآلاف. وفي كل يوم لها ضحايا تلو الضحايا ومآس إثر المآسي.. تُحدِث كل ذلك الخراب وسط ذهول الناس واستسلامهم لها. في بلد تعدّدت فيه الأسباب والموت واحدُ. ومن لم يمت بالقصف مات بتخزينة عامرة.
وكما تنتشر الأوبئة انتشرت دكاكين الموت في كل المدن اليمنية. تقدم لروادها من مزارعي الشجرة التعيسة أصنافا من المبيدات القاتلة مجهولة المنشأ. مغلفة بأكياس براقة. تعِدُ مقتنيها بربح سريع. وتهمس في إذنه بأنه كلما أمعن في رش محتويات هذه الأكياس على مزارع الشر كلما نما كسبه وتحققت أرباحه.. حتى لكأن هذه الأرباح محض صفقات سرية علنية مع الموت. تجلب الأموال لأصحابها. وتجلب الهلكى إلى مصائرهم المحزنة في أطراف تلك المقابر المكتظة التي تدفن النافقين الجدد على بقايا الجثث العتيقة.. إنها سردية معقدة للموت. لا تهز رغم بشاعتها وهول وقائعها شعرة في ضمائر عُبّاد الربح السريع.
ومع أن غسل القات جيدا يزيل قرابة 30% من سمية هذه المبيدات الفتاكة التي يتوارى الجزء الأكبر من خطرها في مائية الأغصان المغرية. إلا أنّ متعاطي القات يرفضون غسل القات بحجة أن هذا الغسل يذهب بالمذاق ويقلل الكيف!!
لقد أصبحوا مدمني سموم.. لا مدمني قات..
ومن العجيب الصادم أنك تجد كل متعاطي هذه الشجرة القاتلة مقتنعين حد اليقين بأنها مشبعة بالسموم ومع ذلك يتعاطونها بشكل نهم باحثين عن ساعة البسط ولحظات الإنس تحت ظلال الموت وبين مخالب الهلاك. والمشكلة أن الواحد من هؤلاء قد لا يختصر طريقه إلى المقبرة سريعا كما فعل جارنا الطيب بالأمس. ولكنه لضراوة الأمراض التي تنخر جسده يذهب في طلب الشفاء كل مذهب. فلا يموت إلا وقد استنفدت أسرته كل ممتلكاتها ومدخراتها. بل وربما غرقت بسبب من ذلك في بحر من الديون ليس له قرار.
فهل يعي هؤلاء المتهورون أنهم يقدمون على عملية انتحار مكتملة الأركان؟ وأنهم مسئولون أمام الله تمام المسئولية عن قتل أنفسهم ظلما وعدوانا. وقتل النفس كما هو معلوم ليس محصورا فقط في التردي من شاهق أو في وضع فوهة المسدس على الرأس وضغط الزناد في لحظة جريئة. ولكنه شامل لكل ما يؤدي إلى الموت عاجلا أو آجلا مادام ذلك يتم بوعي واختيار. وما دام المصير معلوما سلفا.
وهل يعي مزارعو هذه الجائحة المستطيرة بأن جرائم القتل الجماعية التي لا يلتفت إليها أحد اليوم. ناهيك عن تسجيلها ضد مجهول. هي جرائم معلومة عند الله؟ وأن سجلاتهم أصبحت مثقلة وهم ساهون سادرون؟ يمعنون القتل. ولا يُعطَون لبشاعة جرمهم فرصة التوبة. حتى إذا ما وقف القاتل منهم بين يدي ملك الملوك هاله عدد قتلاه المنسيين ووقف على حقيقته الشنيعة.
كان يعلم في الدنيا أنه يبيع الموت.. لكن أحدًا لم يخبره بعدد قتلاه.. وتلك هي المصيبة.