أحسب أني قرأت أهم ما صدر من مؤلفات عن ثورة 14 أكتوبر المجيدة إن لم يكن كلها. ولعل أهم ما وقع في يدي في هذا الشأن كتابان. أولهما كتاب قضية الجنوب اليمني المحتل للأستاذ محمد سالم باسندوة وثانيهما كتاب الاستقلال الضائع للأستاذ عبده حسين أدهل. وأحسب بعد ذلك أن ما قرأته من هذه المؤلفات قد حاول إلى حد بعيد أن يوثق لهذه الثورة في جانبيها السياسي والنضالي. وهي غاية مشتركة لدى كل المؤرخين اليمنيين الذين أرخوا لثورتي سبتمبر وأكتوبر . ظنا من هؤلاء المؤلفين أن الحراكين السياسي والثوري هما قوام هاتين الثورتين وأن الحديث عما عداهما من حركات أخرى لا يعدو عن كونه تحصيل حاصل. أو سرد مطول في التفاصيل.
ومن العجيب أن عددا من المؤلفات التي تناولت ثورة أكتوبر أفردت مساحة لا بأس بها للحديث عن الحراك النقابي والعمالي لكن جل هذه المؤلفات إن لم يكن كلها لم تشر البتة إلى ذلك الحراك الفكري الكبير الذي رافق المسار الثوري وكان حاديه ومرشده منذ تباشير فجره الأولى.
ومما لا شك فيه أن انشغال بعض هذه المؤلفات بإبراز بعض الأدوار لأفراد أو جماعات بدافع سياسي محض. وانشغال بعضها الآخر بتقصي تفاصيل الصراع الذي احتدم بين فصائل الثورة وخاصة ما حدث بين الجبهة القومية وجبهة التحرير. لا شك أن كل ذلك قد فوّت على هذه المؤلفات فرصة التطرق إلى المعاميل الفكرية التي رافقت هذه الثورة بذرة. فنبتة، فشجرة باسقة.
لقد كانت عدن في العقود السابقة لثورة أكتوبر منارة علم وإشعاع فكر. وكان علماؤها في طليعة المؤثرين على الشارع. وكانت المساجد محاضن ولادة تتخرج منها قوافل المعرفة وتتشكل في باحاتها معالم الوعي. وكانت الأندية الثقافية رديفا فاعلا في ذلك. ولا يقل دور الصحافة عبر منابرها الأيام والصباح وفتاة الجزيرة عن ذلك. وكانت مجالس الأدب الأسبوعية التي تحتضنها بيوت عدد من كبار الأدباء أمثال الدكتور محمد عبده غانم والشاعر لطفي جعفر أمان شريكة فعالة في هذا الزخم الثوري.. أفيعقل بعد كل هذا أن يكون نصيب هذا الحراك الفكري التجاهل والنسيان؟
وبالتسليم التام بأن دور سدنة الفكر في مسيرة هذه الثورة لا يقل أهمية عن بقية الأدوار إن لم يكن في مقدمتها؛ فإن الواجب يحتم على الباحثين والمؤرخين أن يجعلوا هذا الدور بوصلة بحث وغاية دونها كل الغايات. وعندها فقط يُرد الاعتبار للفكر أولا، ولرجاله العظماء ثانيا. والله من وراء القصد.