في الوقت الذي لا يزال فيه أبناء تهامة يعانون من آثار كارثة السيول الكبيرة التي حصدت ما يزيد عن مائة قتيل وجرفت ودمرت مئات المساكن والممتلكات، كانت مليشيا الحوثي منشغلة بوضع إضاءات الزينة والخرق الخضراء واللوحات والشاشات الكبيرة في أحياء وشوارع مدينة الحديدة، تحت دعوى الاستعداد للاحتفال بيوم المولد النبوي.
ظل المواطنون في تهامة -على مدى أسبوعين كاملين- يناشدون السلطات المحلية التابعة للمليشيا الحوثية بسرعة التدخل لإنقاذهم من السيول وجبر ضرر آلاف الأسر المشردة بعد تهدم مساكنها، لتجيب المليشيات نداءات المواطنين بفرض إتاوات وجبايات جديدة بمناسبة يوم المولد.
ولا تزال عدة شوارع وأحياء داخل مدينة الحديدة غارقة بمياه الأمطار والصرف الصحي حتى اليوم، مثل شارع المعدل والتسعين وحي الدهمية وغليل، كما لا تزال طرق وخطوط رئيسية تربط بين الحديدة وبعض المديريات والمحافظات المجاورة لها مقطوعة بالكامل إثر كارثة سيول الشهر الماضي، مثل خط الحسينية زبيد وخط بيت الفقيه ريمة.
وفي واحدة من المفارقات التي لا تحدث إلا في زمن المليشيات، منعت مليشيا الحوثي أي دعوات أو حملات تبرع من قبل المواطنين والتجار ورجال الأعمال لإغاثة المنكوبين، ثم لم تمر بضعة أيام حتى راحت أطقم المليشيا تجبر التجار وأصحاب المحلات على دفع الجبايات وتزيين المحلات بالخرق الخضراء.
جبايات باسم الرسول
وبالتزامن مع وقوع كارثة السيول، وفي خضم مواجهة المواطنين لآثارها المدمرة، دشنت مليشيا الحوثي -منتصف أغسطس الماضي- حملة واسعة في مدينة الحديدة لتحصيل جبايات جديدة من رجال الأعمال والتجار وأصحاب المحلات وملاك الشركات والمؤسسات.
وأكدت مصادر محلية لـ"الصحوة نت" بأن المليشيا الحوثية فرضت على جميع الأكشاك والمحلات والصيدليات الصغيرة في مدينة الحديدة دفع مبلغ 20ألف ريال، بالإضافة إلى رفع إضاءات وخرق خضراء أمام كل محل.
وأضافت المصادر بأن المليشيا أجبرت المواطنين من مالكي العمائر السكنية المرتفعة على تزيين واجهات عمائرهم من الخارج بالإضاءات الخضراء ليلًا ونهارًا حتى انتهاء مناسبة المولد النبوي، بالإضافة إلى تحصيل مبلغ 10ألف ريال من كل صاحب مبنى مرتفع في المدينة.
وقالت المصادر إن هذه المبالغ لا تعد شيئًا أمام ما تحصلته مليشيا الحوثي من رجال الأعمال وملاك الشركات والمؤسسات والفنادق والمطاعم والمراكز التجارية، حيث فرضت على بعض الفنادق في كورنيش المدينة دفع مبلغ 500ألف ريال وتزيين مبنى الفندق وإضاءته باللون الأخضر لمدة شهر كامل.
وأشارت المصادر إلى أن المليشيا استنفرت أطقمها العسكرية في المدينة منذ شهر كامل وبشكل يومي للنزول الميداني وتحصيل الجبايات بشكل إجباري، بالإضافة إلى التأكد من التزام أصحاب المحلات بأوامر رفع الزينة والإضاءة، وتهديدهم بإغلاق محلاتهم في حال تأخرهم عن تنفيذ الأوامر.
تجهيزات واحتفالات باذخة:
في مشهد يكشف مدى انفصال هذه المليشيات عن واقع حياة المواطنين ومعاناتهم، غضت مليشيا الحوثي طرفها عن مآسي مواطني تهامة، وراحت تحشد طاقاتها وجهودها منذ شهر كامل، في تنظيف وتزيين وإنارة أربع ساحات عامة في محافظة الحديدة، تجهزها المليشيا لحشد الناس إليها يوم المولد النبوي.
كما أخرجت المليشيات الحوثية من مخازن، ما نهبته من مقدرات الدولة، مولدات كهرباء جديدة تستخدم للمرة الأولى في إنارة الساحات والشوارع في مدينة الحديدة خلال فترة المناسبة، في حين لا تزال خدمة الكهرباء مغيبة عن معظم مديريات المحافظة، ولا يزال المواطنون في المدينة يشتكون من تقطع الخدمة وارتفاع سعر تكلفتها.
ولم تقف بهرجة الكهنوت واستعلائه عند حدود رفع الزينة والإضاءة فحسب، حيث قامت المليشيات بتركيب مكيفات مركزية عملاقة في الساحات العامة المخصصة للاحتشاد وبعض الشوارع الرئيسية التي تؤدي إليها.
وقد أثارت هذه الخطوة الحوثية سخط المواطنين من أبناء المدينة، الذين ظلوا طيلة فترة الصيف يناشدون سلطات المليشيات بخفض تعرفة الكهرباء لكي يتمكنوا من تشغيل المراوح فقط في منازلهم، وسط صمت وتجاهل من قبل المليشيات.
- البُعد عن الواقع:
كشفت هذه الإمكانيات الكهنوتية الكبيرة التي أظهرتها المليشيا الحوثية في مدينة الحديدة تجهيزًا لاحتفالها بمناسبة يوم المولد النبوي، مدى بُعد هذه المليشيات عن واقع حياة المواطنين وهمومهم ومعاناتهم اليومية.
وفي حديث له مع "الصحوة نت"، قال الناشط الحقوقي "إبراهيم الزَبيدي" إن معاناة أبناء تهامة في ظل كوارث السيول الأخيرة، وما سبقها من قائمة طويلة من المعاناة، قد نجحت بجدارة في تعرية هذه المليشيات الكهنوتية وإظهارها على حقيقتها.
وأضاف "الزبيدي" بأنه في الوقت الذي يعاني فيه أبناء تهامة من كارثة السيول التي اجتاحت تهامة مؤخراً، كانت هذه المليشيات تنهب التجار والمواطنين وتنفق مبالغ طائلة في تجهيزاتها لمناسبة المولد التي تحاول استغلالها لعدة أهداف.
واعتبر "الزبيدي" أن أفعال المليشيا الحوثية هي أكبر مظاهر الخروج والتمرد على سنة وأوامر الله ورسوله، فبدلاً من توجيه هذه الأموال الهائلة لإغاثة المتضررين من السيول وجبر ضررهم وإعادة إعمار منازلهم، ذهبت هذه المليشيا لإنفاقها فيما لا ينفع الناس ولا يرضاه نبينا محمد.
وأشار إلى أن تهامة بمعاناتها اليوم ترسم لنا صورة واضحة لمدى التناقض الصارخ بين البذخ الكبير التي تعيشه هذه المليشيات منذ انقلابها ونهبها ثروات البلاد، وبين حالة البؤس والفقر والجوع التي يعيشها أبناء تهامة منذ مجيء هذه الشرذمة الكهنوتية.
- استغلال المناسبة:
كعادتها في استغلال المناسبات والشعائر والقضايا، تسعى مليشيا الحوثي إلى توظيف مناسبة المولد النبوي الشريف بما يتماشى مع أجندتها الخاصة، ويثبت أسس مشروعها السلالي وأفكارها الطائفية المنحرفة في الوجدان الشعبي، المنتمي للثورة والجمهورية التي أطاحت بحكم أجدادها الأوائل.
تعمل المليشيا الحوثية على تحويل هذه المناسبة إلى منصة للترويج لأفكارها الطائفية وتمجيد زعيمها الكهنوتي ومحاولة خلق قناعة لدى الشعب بأنه "ابن طه"، وهي محاولة لربط السلالة الكهنوتية باسم النبي، وبالتالي فإنها تحول يوم المولد إلى مناسبة سياسية بامتياز.
في هذا السياق، قال الكاتب والباحث "علي البكيلي" إن المواطنين في تهامة يحيون ذكرى مولد النبي محمد صلى الله عليه وسلم من قبل مجيء المليشيات بمئات السنين، وبشكل يتوافق مع طبيعة المناسبة، حيث يجتمعون ويسهرون على قراءة وترديد الذكر وسيرة النبي وأحاديثه.
مضيفًا، خلال حديثه مع "الصحوة نت" بأن المشكلة لدينا ليست في إحياء المناسبة، وإنما في استغلالها السياسي والطائفي وإخراجها عن طبيعتها كمناسبة جديرة باتباع خلق الرسول والاقتداء به، وليس في ممارسة أفعال قطاع الطرق وإلصاقها بالنبي، كما تفعل المليشيات.
وأشار "البكيلي" إلى أن مليشيا الحوثي باحتفالها بهذا الشكل بيوم المولد النبوي إنما تسعى لتحقيق عدة أهداف وفي أكثر من جانب، أهمها الترويج لمشروعها السلالي وهويتها الإمامية على حساب هويتنا الوطنية.
بالإضافة إلى محاولة تصدير السلالة الكهنوتية فكرة أنها ذات صلة عرقية بالنبي، وهذا سعي لإيجاد بيئة ترعى الأفكار الطائفية وتقبل بالتسلسل الطبقي الذي يحاول الكهنوت إعادته مجددًا بعد أن قضت عليه ثورة سبتمبر المجيدة.