أخذ الراية زيد فأصيب،ثم أخذ الراية جعفر فأصيب، ثم أخذ الراية عبدالله بن رواحة فأصيب !
هذا ما أخبر به الرسول صلى الله عليه و سلم الصحابة؛ قبل أن تأيهم الأنباء عن مسار معركة مؤتة، و قادتها الثلاثة رضي الله عنهم، و الذين عينهم لها بالترتيب.
لم تسقط الراية، بل تلقفها كل قائد ممن سبقه، حتى عند استشهاد عبدالله ابن رواحة (رض) عنه، تلقفها ثابت بن أقرم الأنصاري، و لم يدعها تسقط.
الراية رمز و شعار ، و الراية احتشاد يَلُمُّ الأطراف، و يرص الصفوف، و في كل غزوة، أو سرية كان النبي يعقد الراية للقائد الذي يكلفه بالقيادة.
كان للرسول (ص) راية سوداء مكتوب عليها في سطرين شهادة أن لا إله إلا اللــه، و أن محــمدا رسول اللـه، و اسمها العُقَـاب ، و كانت ــ أيضا ــ هي راية الخلافة الراشدة.
و عودة لثابت بن أقرم الانصاري الذي تلقف الراية يُعلّيها في أصعب موقف،بعد استشهاد القادة الثلاثة؛ حيث يواجه فيه ثلاثة آلاف مجاهد، مائتي ألفا من الـروم و حلفائهم من العــرب المُتَنصِّرة.
كان عرب الشام يومها تحت هيمنة الروم ! و آه من العرب، و على العرب حين يرضخون لهيمنة خارجية؛ حينها تنتفي منهم جُلُّ خصالهم المعروفة من الإبـــاء، و الشجاعة، و العـزة، و رفض هيمنة الأجنبي.
و للعلـم فمؤتة التي استشهد فيها قادتها الثلاثة، ليس بينها و بين رفح التي استشهد فيها قائد الطوفان غير 140 كم فقط، و ( الروم ) هم الروم، و خطبة ابن رواحة التي حرّض فيها جيش موته، نفس معانيها و مقاصدها حرض بها السنوار رجال الطوفان في مواجهة الصهاينة ، و من خلفهم الروم :
و سوى الروم خلف ظهرك روم
فعلى أي جــــــانبيك تميــــــلُ
أمسك ابن أقرم بالراية و نادى في الناس أن يختاروا قائدا، فقالوا : أنت يا ثابت ، فقال : لست لها ؛ و لكن ما تقولون في خالد بن الوليد ، فقال الجميع : رضينا به. و كانت مؤتة أول مشاركة لخالد بعد إسلامه.
و هو ما أخبر به النبي أيضا: ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله، خالد بن الوليد ففتح الله عليهم.
لاتزال الراية، يتداولها الأبطال، فمنذ بدر الكبرى، مرورا بفتح مكة، و مضيا نحو فتوحات: القـادسية، و اليـرموك، و نهـاوند ، و الأندلس... و صـلاح الدين، و قطـز... و محمد الفاتح... الخ. و غوصوا في فصول التاريخ شرقا و غربا؛ لمن أراد أن يَدّكر أو أراد شكورا ، ستجدون أن الراية لاتزال يحتشد حولها الأبطال، و يحمي حماها الرجال ؛ حتى و إن قصّرت أو تراجعت النخب الحاكمة تبقى الشعوب حية تتلافى جبن و تقصير المترفين.
و انظر : أخذ الراية الشيخ أحمد ياسين فاستشهد، ثم أخذ الراية عبدالعزيز الرنتيسي ثم استشهد،ثم أخذها اسماعيل هنية ثم استشهد،ثم أخذها يحيى السنوار، فقاتل بكل بطولة حتى لم يعد معه من عتاد غير العصا.. ثم استشهد، ثم تبادر نحو الراية آلاف يرفعونها؛ كل يصلح أن أن يكون في الرأس !
نعم .. هل سقطت الراية؟ أو هل ستسقط ؟! كلا.
عبر التاريخ ، قد يتدسس في القوم هناك ، أو هنالك أبو رغال، أو ابن العلقمي، أو شاور ... و قد تنكمش المساحة؛ لكن الراية لا تسقط.
استشهد القادة الثلاثة في مؤتة رضي الله عنهم، فلم تكن النهاية، و لكن انبثق في اللحظة، و من بين الجموع سيف من سيوف الله. و كم لله من سيوف يستظلون بالراية، و ينهلون من مــائدة المصطفى الذي أعلاها منذ بدر ؛ و لم تزل خافقة ، و لن تزال مرفوعة.
استشهد النعمان بن مقرن المزني و كان أول القادة السبعة الذين عينهم عمر بن الخطاب لمعركة نهاوند، لأنها كانت المعركة الفاصلة، و لها ما بعدها؛ فاستشهد النعمان رضي الله عنه في بداية المعركة .. فهل كانت النهاية ؟ كلا ، تحقق فتح نهاوند الذي سماه المؤرخون فتح الفتوح، و استمرت الراية عالية خَفّاقة.
مضى أحمدياسين، و مضى الرنتيسي ، و مضى اسماعيل هنية، و تبعهم السنوار.. و دبت من دمائهم الزكية حياة الأمة.. و ستبقى الرايـــة مرفوعـة جزما لا أمنية ، و واقعــا لا خيـالا.
أُنظروا في فصول التاريخ، و مراحله و محطاته ، كم هي المحن التي مرت بالأمة ؟ و سَلُو أوروبا عن حملاتها الصليبية و عددها و أعدادهم.. و ماذا كان مصيرها.
و أنتم تسألون أوروبا عن ذلك، ذكروها أن تتعظ، و تذكر معها امبراطورية الفيتو الأسود ، فالسعيد من اتعظ بسابقيه.