أن تكون موظفا نازحا إلى منطقة من مناطق الشرعية؛ فإن ذلك بلية ما بعدها بلية ورزية دونها كل رزية. لأنك حينئذ تصبح إنسانا ناقص الأهلية ومواطنا من الدرجة العاشرة. لا لدى الحكومة فقط وإنما في نظر الناس جميعا من حولك. حيث يعاملك الجميع بخليط غير متجانس من مشاعر الانتقاص والرحمة والازدراء والشفقة. وتفقد في هذا المحيط أشياء كثيرة أولها اسمك الذي يحل مصطلح (نازح) محله رفعا ونصبا وجرا. فلا تسمع في مجيئك وذهابك وحضورك وغيابك غير كلمة (نازح. نازح. نازح) تطاردك كدقات مطرقة غليظة تتهاوى بسادية عجيبة على أم رأسك. فتسري وجعا في القلب وحرائق في الروح.
يوم أمس نفذ النازحون وقفة احتجاجية أمام وزارة المالية بعدن هي الرابعة من نوعها مطالبين بصرف مرتباتهم المتوقفة منذ ما يقرب العام. ذهبوا إلى هناك والأمل يحدوهم في تحقيق انفراجة. فقد طال المطال. وبلغ العسر منتهاه. ولاشك لديهم أن مرتباتهم التي يوجبها الحق وتؤكدها الأخلاق وتفرضها الضروف البائسة ستصرف. غير أنهم اصطدموا بصخرة التعالي والتنصل من المسئولية وتبادل التهم بين وزارتي الخدمة والمالية. وهاتان الوزارتان تعمل في كل بلاد الله على خدمة الموظف. إلا في عدن حيث الهوى ملون.
عادوا بخفي حنين. وقد ضاع الحق. وغابت الأخلاق. وبقيت المعاناة مشروع جدولة تلوّح به وزارة المالية كحبل رث تلوّح به في الشاطئ البعيد لغريق تتقاذفه الأمواج في انتظار نهايته المحتومة.
بدأ النازحون قبل أربعة أعوام يستلمون مرتباتهم نهاية كل شهر. ثم رأت الحكومة انتقاصا لهم أن تصلهم مرتباتهم كل شهرين. ثم مددتها إلى ثلاثة أشهر. فأربعة. ثم استحلت المسألة ومددت إلى أجل غير مسمى. علما بأن هؤلاء المقهورين يستلمون مرتباتهم بما كانت عليه قبل عقد ونصف. ولا يتجاوز أعلى راتب فيهما مئتي ريال سعودي. خالية من العلاوات والزيادات التي أضيفت إلى زملائهم الموظفين. واستثنتهم الحكومة الموقرة منها لا لشيء إلا لأنهم نااااازحووووون.
وهكذا ينطوي عام من أعمار النازحين البؤساء. عام من البؤس والفاقة والعوز في محرقة حكومة تخلت عن الإعمار وتفرغت لسرقة الأعمار. وحكمت على شريحة كبيرة من الموظفين بالموت جوعا. وعلى مسامعهم المجهدة يتوالى وقع مطرقة غليظة: نازح. ناازح. نااااازح.