في شهر رمضان من العام 658 من الهجرة، كانت أرض الكنانة ـ مصر ـ تستعد للرد العملي لغطرسة المغول، و تصقل سيوفها لتكتب بها من دمائهم ردا تاريخيا لغرور هولاكو القائد المغولي الذي وجه رسالة لسيف الدين قطز سلطان مصر، اختار لها كل مفردات التهديد، و الوعيد: ".. عليكم بالهرب، و علينا بالطلب، فأي أرض تؤويكم، و أي طريق تنجيكم، فمالكم من سيوفنا خلاص، و لا من مهابتنا مناص.. الخ" و مضت الرسالة على هذا المنوال المتعجرف.
كانت انتصارات المغول التي اجتاحت المشرق، و أسقطت بغداد عاصمة الخلافة تملي ألفاظ رسالة الغرور تلك؛ بل قد كانت تسبقها مقولة إعلامية انتشرت تروج للتتار، تقول: إذا سمعت بأن التتار قد هُزموا فلا تصدق !
في عصرنا راح الصهاينة يستنسخون هذا المعنى ليحيطوا جيشهم بهالة من الرعب؛ ليهددوا به العرب بأن الجيش الصهيوني جيش لا يقهر . غير أن رجال الطوفان أذاقوا الجيش الدي لا يقهر، مرارات القهر بأقسى مما كان يتوقعه جيش صهيون و قادته السياسيون و العسكريون. و هو ما يجب أن يعزز العرب تلك المرارة في الصهاينة بمواقف مسؤولة لا تمكّن الصهاينة من إدراك ما خسروه حربا،ان يحققوه سياسة.
كانت سلطة المماليك في مصر تشهد صراعا بينيا، و خلافات ظاهرة، لكن اقتراب المغول، و عزمهم على اجتياح مصر، تعامل معه قادة مصر، برؤى مسؤولة،و موقف من روح القيادة الناضجة المستشعرة لمهامها، فطرحوا الخلاف جانبا، و مضوا يُزْجون الصفوف، و يوحدون المواقف؛ ليخرجوا لملاقاة العدو صفا (ميدانيا) واحدا، لا كلاما إعلاميا مترهلا.
و هذا الموقف يذكر بوحدة الصف الجمهوري الذي كان قد دب الخلاف بقوة في صفوفه، فلما هجمت فلول الإمامة الملكية و أقدمت على حصار صنعاء، كان الجمهوريون عند مستوى المسؤولية في وحدتهم، و اتحادهم لمواجهة الملكيين حتى تم فك الحصار و إلحاق الهزيمة بالإمامة.
طرح المماليك الطموحات الشخصية، و أوهام و هواجس القفز على السلطة؛ ففي حضرة العدو الوشيك على الانقضاض، يرمي الرجال تلك الأوهام، و يدعسون على تلك الهواجس، فهم يرون أن السفينة ستودي بها العواصف بمن فيها، ما لم يتخذ أهلها الموقف الحاسم و القرار الصارم تجاه الخيار الوحيد الذي بقي أمامهم، و هو الجهاد، و ما سواه إلا الاستسلام، و هو ما استشعر معه المماليك في مصر مسؤوليتهم التاريخية. ليعطوا بذلك درسا عبر التاريخ لمن كان له قلب أو ألقى السمع و هو شهيد.
توجه قطز بجيش الكنانة مصر، لملاقاة المغول، و لم ينتظر حتى يأتيهم إلى عقر دارهم، و كانت معركة عين جالوت في 25من شهر رمضان من العام 658 من الهجرة.
كان المغول يغريهم رصيد انتصاراتهم السابقة ، و كثرة عددهم، و أنهم في لحظة إنزال الضربة الساحقة في آخر معقل للأمة الإسلامية و حضارتها، و التي يجب أن تباد.
حرب الإبادة الذي يستهدف الأمة قد خاضها من قبل المغول، و الصليبيون، و ما ممارسة الصهاينة اليوم إلا امتدادا لتلك المشاريع الهمجية التي تنزع عن أصحابها إنسانيتهم، و آدميتهم.
معركة عين جالوت نسفت كل أرصدة المغول في معركة من كبريات المعارك التاريخية لأمة الإسلام، فقد احتدمت المعركة التي أظهرت البداية تفوق المغول الذين وصلوا إلى قلب الجيش الإسلامي، حد إصابة زوجة سيف الدين قطز إصابة قاتلة فهاله ما حل بها، فنادى: وا حبيبتاه..!! فقالت و هي تلفظ أنفاسها: لا تقل وا حبيبتاه، بل قل: وا إسلاماه ..!! فالتقط الشعار و راح يردد بصوت حَرِب: الله أكبر.. وا إسلاماه، فيردده الجيش كله؛ فإذا هو روح تسري في كل الصفوف التي استعلت بالله، و انتصرت، ملحقة هزيمة نكراء بالجيش الذي لا يهزم.
و اليوم ، و أحداث فلســطين في وطيس محتدم سياسيــا، و عسكريا؛ ينتظر العرب موقفا موحدا يعزز الكرامة العربيـة ، و يعيد أمجاد عين جالوت.